
بقلم ياسين عبد القادر الزوي
لم يكن صباح يوم الجمعة السادس عشر من مايو عام 2014 يومًا عاديًا في تاريخ ليبيا؛ لقد دوى صدى هذا اليوم في كل أرجاء ليبيا معلنًا عن انطلاق عملية عسكرية شجاعة، عرفت بــ”عملية الكرامة”.
كانت ليبيا والمنطقة بشكل عام تمر بمنعطف حاد بعد تعثر مشاريع التغيير التي أفرزتها أحداث 2011، التي عصفت ببعض الدول العربية.
وقد شهد العام 2013 م ذروة هذه الأحداث في المنطقة، إذ بدأت تونس مع تطورات مهمة بعد اغتيال المعارض اليساري الكبير شكري بلعيد وزميله المعارض القومي العربي محمد البراهمي، كما عرفت أرض الكنانة (مصر) التطورات الأهم مع السقوط المدوي لحكم جماعة الإخوان المسلمين في ثورة 30 يونيو، وما أحدثه هذا الحدث المزلزل من تفاعلات وتداعيات في شبه المنطقة.
وذلك ما جعل الأنظار تتجه إلى ليبيا، المعروفة تاريخيًا بانعكاس أية تغييرات في جوارها عليها، وهذا من دروس التاريخ وعبره الثابتة!
ولقد بلغ الوضع السياسي في ليبيا قمة توتره مع محاولة تمرير مشروع التمديد الذي خطط له بعض المسيطرين من التيارات الإسلامية على المؤتمر الوطني (وهو السلطة الحاكمة في ذلك الوقت)، وتم التنسيق في ذلك مع مليشيات جهوية معروفة ضد تيار مدني واسع وعريض يرفض هذا المشروع شكلا ومضمونًا، وكان الوضع في الشرق الليبي في قمة التوتر والتأزم مع بدء مسلسل الاغتيالات الذي طال الكثير من القيادات العسكرية والأمنية والنشطاء المدنيين والإعلاميين.
كما خرجت المظاهرات في كثير من أنحاء ليبيا رافضة لهذه التوجهات ومعلنة عن رغبة صادقة في التغيير، لكنها جميعًا قوبلت بعنف شديد.
وكانت بداية العام 2014 سريعة ومختلفة، مع بيان اللواء خليفة حفتر في فبراير بشأن مبادرته بتجميد الإعلان الدستوري ووضع ترتيبات جديدة لقيادة البلاد، ولقد أظهر هذا البيان أن الجيش الليبي هو العنصر الرئيسي في عملية التغيير المنتظرة والمنشودة!
ومرت الأسابيع ثقيلة على الليبيين، وشهدت بنغازي الموجة الأسوأ من الاغتيالات التي وصلت إلى معدل ثلاثة عشر اغتيالا في اليوم، وفي بنغازي وحدها قبل انطلاق عملية الكرامة بلغ عدد أفراد المؤسسة العسكرية الدين تم اغتيالهم أكثر من 800 عنصر، منهم 200 برتبة عقيد.
وكما قلنا في بداية المقال، كانت عملية الكرامة حدثًا مهمًا ومفاجئًا لكثيرين، ومع انطلاقها بدأت تقديرات الموقف الأولية عند صناع القرار في الداخل والخارج تختلف حولها وحول مدى تأثيرها وقدرتها على التغيير والاستمرار وما يتوفر لديها من دعم وتأثير وانعكاس على المسار السياسي.
وفي الأسبوع الأول من العملية، خرجت إلى العلن مجموعة من الإعلانات المهمة المنوّهة بالعملية والمطالبة بالانضمام لها، وذلك من عدة مناطق عسكرية في شرق ليبيا، علاوة على دعم قبلي واضح يساندها بشكل كبير.
وكان انضمام القوات الخاصة (الصاعقة) للعملية بعد أربعة أيام من انطلاقها، حدثًا مهمًا كان له صداه وتأثيره العميق، وذلك بالنظر إلى أنها هي القوة المنظمة والمدربة والمسلحة جيدا في بنغازي والمتمركزة منذ عشرات السنين.
ثم مرت الأسابيع سريعا، وجرت انتخابات مجلس النواب الليبي في 25 يونيو 2014، وأظهرت نتائج الانتخابات الأولية الفشل الكبير لتيار الإسلام السياسي وحلفائه، وتسبب ذلك في خسارته كل مكتسباته التي حققها منذ عام 2012 م.
وكانت الأشهر الثلاثة القادمة هي الأصعب في عملية الكرامة، إذ تجلّى للفريق السياسي الذي خسر الانتخابات أنه لا بد له من عملية عسكرية، في محاولة لتطبيق معادلته المعروفة بالقوة على الأرض تعادل صندوق الانتخابات، وانطلقت عملية “فجر ليبيا” متزامنة بين غرب ليبيا وشرق ليبيا، وكانت المواجهات على أشدها طيلة تلك الأسابيع وكان حلفاء ومؤيدو هذا الفريق في الداخل والخارج ينتظرون إعلان الانتصار!!
وقال وزير خارجية إحدى الدول العربية الداعمة لهذا الفريق في لغة لا تنقصها العجرفة والتكبر: “إننا وحلفاؤنا قريبًا نحسم هذا الوضع في ليبيا، فعملية الكرامة هي مجرد فقاعة صابون وقيادتها لا تصلح لقيادة فرقة كشافة!”، كما ادّعى هذا الوزير!
وقالت سفيرة دولة عظمى: “كيف يمكن لطائرتين ومائتي سيارة وخمسمائة جندي أن يهزموا آلاف الشباب المسلحين في بنغازي”.
وعلى العكس تمامًا من مسار المعارك العسكرية، كان الوطنيون والشرفاء من القوى المدنية الداعمة لهذه العملية يعملون ليل نهار وبأكثر من عشرين رحلة جوية على تجميع أعضاء مجلس النواب المنتخبين في مدينة طبرق، دار السلام، ونجحوا في تحقيق النصاب المطلوب، وانتقلت الشرعية المنتخبة حسب الإعلان الدستوري إلى شرق ليبيا، وانتقل معها الاعتراف الدولي بهذا الجسم الجديد في خطوة مباغتة للجميع.
وفي أقل من شهر من عمل مجلس النواب تم تعيين العقيد ركن عبد الرازق الناظوري رئيسًا للأركان العامة، وترقيته إلى رتبة لواء، في خطوة تهدف إلى مأسسة هذا العمل العسكري، وكانت الأسابيع التالية أكثر قساوة من قبل، ونجح دعاة الشر وداعموهم في هزيمة القوى الوطنية في طرابلس، وأعلنوا سيطرتهم عليها، لكن جحافلهم اصطدمت بتضيحات الشرفاء في بنينا وغيرها من مدن الشرق.
إلى أن جاء يوم 15 أكتوبر 2014، حين بدأ الاقتحام الكبير والسيطرة على الأحياء في المدينة، ما جعل ميزان الحرب والصراع يميل لكفة الجيش وتراجع المليشيات والعصابات و اندحارها إلى بعض الأحياء في الصابري والقوارشة وغيرها!
ومع انطلاق أعمال الحكومة الليبية المؤقتة في البيضاء واستقرار البرلمان في طبرق ومعهما الشرعية الدولية ونجاح عملية الكرامة بتطوير نفسها وزيادة تنظيمها ومأسستها، جرى ضم أعداد أكبر لها، إلى أن تم اتخاد القرار الكبير من قبل مجلس النواب الليبي بتعيين اللواء خليفة حفتر قائدًا عامًا للجيش الليبي، وتشكيل القيادة العامة وترقيته لرتبة فريق أول، وكل هذه الخطوات أظهرت الأرضية الصلبة لهذا المشروع وتماسك البيئة الحاضنة له.
لقد كانت هذه المرحلة التأسيسية الأصعب لهذا المشروع، وواجه فيها تحديات حقيقية وكبيرة كادت لا قدر الله أن تعصف به، ولكن إرادة الله سبحانه وتعالى أرادت له أن يتماسك وينتصر ويعزز نفسه أكثر فأكثر!
الكرامة.. مسيرة تاريخية
لقد كنت من قلة محظوظة ممن اقتربوا من قيادات هذه العملية، وشاركوا معهم في محطات مختلفة من هذه المسيرة التاريخية الهامة، التي قدر لها أن تقود قاطرة التغيير الإيجابي في ليبيا.
لم يكن المشير خليفة حفتر قائدًا عسكريًا تقليديًا، ولم تكن تنشئته تنشئة عادية، فوالده الحاج بلقاسم حفتر شاعر ومجاهد، لا يختلف على فتوته وشجاعته اثنان! وفي مدينة إجدابيا ترعرع في بداياته الأولى، حيث البيئة مترعة بالشعر والتاريخ بصماته واضحة في كل أرجاء المدينة، وفي درنة تلقى تعليمه الثانوي وبدأ اهتمامه وتكوينه السياسي في الظهور، وفي الكلية العسكرية تعلم الجدية والانضباط والمسوؤلية والحزم والصرامة!
لقد عرفت عن قرب عددًا من الضباط العسكريين في الدفعة السابعة والثامنة للكلية العسكرية ممن زاملوه عن قرب، وكان معظمهم أصدقاء له في تنظيم الضباط الأحرار، ورافقوه في مهام ومسؤوليات مختلفة في طبرق والمرج وتشاد، وسألت الكثير منهم عنه فلا يختلف اثنان على شهامته وشجاعته وصبره ووطنيته وقدراته القيادية البارزة.
ولم تكن هذه المسيرة المظفرة التي وصلت لعامها العاشر مسيرة عادية ومفروشة بالورود، بل كانت كل محطاتها مليئة بأشواك وتحديات وصعوبات ومشاكل لا يمكن تخيلها وتحتاج لرجال أشداء يملكون العزيمة والصبر والثقة بالله سبحانه وتعالى.
لقد كان بإمكان اللواء خليفة حفتر خلال هذه المسيرة الطويلة أن يساوم على أن ينال حظه من الدنيا من المال والثروات ويعيش في أفخم المنتجعات في العالم منعما بالأموال ومتاع الدنيا، ولكنه أراد أن يكون له نصيب وبصمة من تاريخ ليبيا الذي حجز فيه مكانا بارزا سيذكره الليبيون جيلًا بعد جيل بأنه ساهم في إنقاذ وطنه.
لقد ظهرت نتائج عملية الكرامة سريعًا، فلقد أعادت التوازن إلى العملية السياسية بعد أن حاول فريق ليبي الانفراد بالمشهد وإقصاء الآخرين!
ولقد ساهمت العملية في دعم جهود الوطنيين في مجلس النواب الذي أصدر قانونًا يلغي به قانون العزل السياسي الذي أقره المؤتمر الوطني وأقصى بموجبه الآلاف من كوادر البلد السياسية والأمنية والاقتصادية، وأصدر قانون العفو العام الذي مهد لخطوات مهمة في المصالحة الوطنية الليبية.
لقد وصل تأثير عملية الكرامة لجنوبنا الحبيب، حيث الجرح الأكبر للوطن ومنذ فبراير 2019 بدأ يستعيد الجنوب عافيته وتنشط مؤسساته الأمنية والعسكرية والقضائية ويعمّ الأمن والاستقرار كامل أرجائه!
كما شعر أبناء الجنوب في سبها والشاطئ وغيرها من مناطق بما تحقق من مكاسب لا ينكرها إلا جاحد أو حاقد!
ولقد وصل تأثير العملية إلى غرب ليبيا، وشكل وجودها ضغطًا كبيرًا على الأطراف الفاعلة غربًا، ما جعلهم ينزلون من أعلى شجرة طموحاتهم وتطلعاتهم، بل إن كثيرين ممن يجلسون الآن على مقاعد السلطة التنفيذية في طرابلس يجب أن يعلموا أنه ما كانت لهم فرصة الجلوس على كراسيهم لولا تأثير هذه العملية التاريخية.
ولا يحتاج المشير خليفة حفتر لصندوق انتخاب حتى يعزز من شرعيته ومكانته في ليبيا ولا إلى استطلاعات رأي فيسبوكية وهمية تضعه في مرتبة من المراتب، فالرجل تقدم الصفوف في وقت تخادل فيه الكثير، ووضع رصيده وكل حياته من أجل ليبيا ومستقبل أجيالها. وبالتالي فإن كل المقارنات معه هي مقارنات مع الفارق وإسقاط في غير محله.
يختلف كثيرون في توصيف هذه العملية، ولكل طرف تسمية تخصه، لكن الأكيد أنه لا توصيف دقيق لعملية الكرامة إلا التوصيف الوحيد الذي يصنفها بأنها “حركة وطنية تصحيحية لمسار الوطن عمودها الفقري هو المؤسسة العسكرية العربية الليبية”.
والآن.. وبعد هذه السنوات الصعبة بدأت الناس يحصدون ثمار الصبر برؤية البناء والإعمار والتطوير والتحديث للبنية التحتية، وحلّ كل المشاكل والصعوبات ومواجهة كل التحديات، ويقود جيل جديد من الدماء الشابة هذه العملية ويعكفون ليل نهار على تقديم أفضل الخدمات وتطوير المؤسسات المختلفة حتى تلبي تطلعات كافة أهلنا في ليبيا الحبيبة التي تحتاج للكثير من الوقت والجهد وتكاتف جهود أبنائها شرقًا وغربًا وجنوبًا من أجل بناء مستقبل وضّاء ومشرق لهم وسط تحديات وعواصف كبيرة تستهدف وحدتهم وسلامة أراضيهم وخيراتهم.
إنها مناسبة للترحم في هذا اليوم التاريخي المجيد على الشهداء الأبرار، الذين رافقناهم في هذه المسيرة الطويلة والذين لن ينساهم التاريخ أبدًا.
مان التقويم للتنظيم و إعادة القطار إلى صحيح مساره صعبة و كانت فاتورة التضحيات عاليه و لكن قيمة ما ضحى من أجله من نحتسبهم عند الله شهداء غالية الا و هو الوطن .
نعم احسنت التوصيف و التسلسل للوقائع التي حدثت و كانت أشبه بمعجزات تتلوها المعجزات و ولادة جاءت وهناً علي وهن لقلة استطاعت أن تستدرك الأمور و تعود بالوطن و تنجي المواطن من مهالك الظلاميين .