رحلة إلى ليبيا : مدينة طلميثة الرحلة الأولى

عند قدوم الأغريق إلى سواحل شرق ليبيا منتصف القرن السابع قبل الميلاد , قاموا بتأسيس العديد من المدن في المنطقة الممتدة مابين سهل بنغازي غربا و درنة في الشرق .
أزدهرت هذه المدن مع الوقت حتى صارت مراكزا تجارية و عسكرية و دينية في شمال أفريقيا و حوض البحر الأبيض المتوسط .
بعد مد البطالمة نفوذهم على المناطق التي كان يسيطر عليها الأغريق , غيروا الكثير من سمات المدن الأغريقية و حولوا موانئ طلميثة و سوسة إلى مدن مستقلة بعد أن كانت تابعة لكل من قورينا و باركي .
أوصى بطلميوس أبيون أخر ملوك أقليم قورينا من البطالمة بأن تكون المناطق الخاضعة له , تحت حكم الرومان بعد وفاته , دون وريث لعرشه.
توفي بطليموس أبيون في عام 96 قبل الميلاد ونفذت وصيته , و أصبحت برقة وممتلكات أسلافه الملكية تحت حكم الجمهورية الرومانية.
سيطر الرومان على مدن الأقليم و أطلقوا عليه أسم أقليم البنتابولس , و التسمية من شقين ’ فكلمة بنتا تعني خمسة باللغة اليونانية القديمة و بولس تعني مدينة , وهي المدن الخمس , قورينا , و أبولونيا , و برنيكي , و باركي و بتولمايس .
قورينا تأتي في أول مراتب تلك المدن من حيث الأهمية و التاريخ فهي أولى المدن التي أسسها الأغريق عام 631 قبل الميلاد و كانت دائما تعتبر عاصمة للأقليم و مركزه الحضري و التجاري , و أنشئ لقورينا ميناء بحري على الساحل حول في عصر البطالمة إلى مدينة أطلق عليها أسيم أبولونيا و هي سوسة اليوم , فيما أسست لاحقا مدينة باركي و هي المرج و مينائه المعروف بأسم تولمايد و الذي حوله البطالمة أثناء مد نفوذدهم على المدن الخمس إلى مدينة و أطلقوا عليه أسم بتولمايس .

موقع مدينة طلميثة

تقع مدينة طلميثة الأثرية في شمال شرق ليبيا، تبعد عن مدينة المرج 20 كم شمالاً، وقد نشأت مدينة طلميثة في القرن الثالث قبل الميلاد كميناء بحري لمدينة برقة المرج .
و عندما مد البطالمة حكام الأسكندرية نفوذهم على أقليم المدن الخمس شمال شرق ليبيا , قاموا بتأسيس مدينة مكان الميناء.

خلفية تاريخية

أطلق بطليموس فيلادلفيوس الثالث أحد ملوك مصر 258- 246.م اسمه عليها، وذلك احتفاءً وتخليدًا لزواجه من الأميرة برنيق أميرة قورينا (برنيشه ابنة ماجوس ملك قورينا).

شهدت المدينة أوج شهرتها في العصر الإغريقي، حيث أصبحت من أهم مدن الشمال الإفريقي، وبرز ذلك في اقتصادها بإنتاجها لنبات السلفيوم، الذي كان من السلع النادرة حينها، بل وكانت تعمل على تصديره إلى أغلب أجزاء العالم القديم، ونتيجة لهذا الرخاء الاقتصادي والاستقرار السياسى الذي أنعمت به طلميثة ازدهرت الحركة الثقافية والفلسفية، وانتجت جيلاً من الفلاسفة والشعراء والعلماء.
في عام (96.ق.م) انتهى الحكم البطلمي في برقة بعد أن اخترقها النفوذ الروماني، وعين أول حاكم له فيها سنة (74 ق.م).
ازدهرت طلميثة أيما ازدهار في العصر الروماني، إذ أنها أصبحت في عهد الإمبراطور ديوقليسيان عاصمة لإقليم برقة .

شيدت مدينة طلميثة على شاطيء البحر المتوسط في إقليم (سيرينايكا) شمال شرقي ليبيا، أخصب المناطق الزراعية بسهولها ومراعيها مترامية الأطراف ، وأكثرها انتاجاً للغلال والثمار والحبوب، الأمر الذي أسهم وبشكل كبير في تطور المدينة وازدهارها اقتصادياً وزراعياً وتوسع الأعمال الفلاحية و تربية النحل.
و شكلت المدينة أحد أركان إقليم “البينتابوليس”، أي المدن الخمسة، محل مدينة برقة في مجلس مدن الإقليم ، وتعد رسائل الفيلسوف والأديب “سنيسيوس القوريني” الذي عاش في المدينة سنة 370 – 413 للميلاد أهم المصادر التاريخية عن تاريخ طلميثة، جنباً إلى جنب مع مدونات المؤرخ البيزنطي “بروكوبيوس” مؤلف كتابي “التاريخ السري”، ورسالة في البناء”، بالإضافة إلى النقائش، والحفريات الأثرية التي أسفرت عن فرد صفحات كاملة من تاريخ المدينة.

تسمية طلميثة القديمة

أطلق الملك بطليموس الثاني فيلادلفوس إسمه عليها بعد زواجه من برنيكي ابنة ماجوس ملك قورينا، وشهدت المدينة أوج ازدهارها فى عهده (258- 246 ) ق.م، سيطر عليها الرومان خلال سنة 74 ق.م حيث شهدت المدينة نشاطاً أدى إلى ازدهارها حتى أضحت عاصمة لاقليم برقة في القرن الخامس للميلاد.

شيد خلال القرن الخامس الميلادي عدد كبير من الكنائس في المدينة وفي مطلع القرن الخامس الميلادي رسم الكاتب الفيلسوف سينسيوس أسقفا لمدينة طلميثة وقد خلف لنا هذا الأسقف عددا وافرا من الرسائل والمقالات التي تنبئنا وتكشف لنا عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمدن الخمس، وذلك في الفترة التي أخذت فيها القبائل الليبية المعروفة بقبائل (الاستريانى) تغزو هذه المدن , ومع نهاية القرن الخامس الميلادي أصيبت خزانات المياه بعطب كبير الأمر الذي دفع حكام المدينة إلى نقل عاصمتهم إلى أبولونيا (سوسة) مما أدى إلى نزوح معظم سكان طلميثة عن ديارهم إلا أن الإمبراطور جستنيان وكمحاولة منه لإعادة الحياة إلى المدينة بنى لها قناة جديدة تحمل المياه من ينابيع وادي حبون في الشرق من المدينة ولا تزال آثار تلك القناة ماثلة للعيان بالقرب من الجسر الروماني خارج أسوار المدينة الشرقية.
مما لاشك فيه أن الاصلاحات التي أجريت على المدينة مكنتها من العيش والبقاء حتى الفتح العربي في العام 642.م وقضاءه على الحكم البيزنطي وقد عاشت طلميثة قرابة قرون ثلاثة في ظل الفتح العربي الإسلامي للبلاد وكانت ميناء لمدينة المرج القديمة التي جعلها العرب العاصمة الجديدة للشق الشرقي من ليبيا، وفي تلك الفترة أصبحت مرفأ حربيا وتجاريا هاما وكانت منيعة الحصون والأسوار ومزدحمة بالسكان.

استقطب الموقع عدد من الرحالة والمستكشفين منذ بدايات القرن الثامن عشر، حيث زارها الرحالة “جان ريموند باشو” و نشر لأول مرة ملاحظات حول الموقع، وكان عالم الآثار البريطاني “جولد تشايلد” أول من أطلق عمليات النشاط الأثري أو الأبحاث العلمية الجادة خلال الفترة من 1959 – 1964، وتشير المراجع التاريخية إلى أن أول عمليات نقل آثار من المدينة تمت سنة 1851 قام بها القنصل الفرنسي في بنغازي “فاتيير دي بورفيل”، بعد أن اقتلع نقش كتابي من أحد جدران مقر القائد أو قصر الدوق يحمل نص قرار “اناستاسيوس” الذي يرقى تاريخه إلى مطلع القرن السادس الميلادي، وتم نقله إلى متحف اللوفر بباريس.
تؤكد عمليات المسح الجغرافي أن موقع طلميثة ، يتميز بشي من الغرابة ، بداية من اختياره ، بإطلالة على ضفاف البحر المتوسط ، وخلفية مرتفعات الجبل الأخضر بمرتفعاتها المنهمرة على المياه الفيروزية، وسط منطقة تتميز بتضاريس صخرية وعرة، وتعرجات ساحلية متواصلة، بين واديان “زوانة ، وخنبش”، ما شكل تحصيناً طبيعياً للمدينة ، فضلاً عن توسطها المسافة بين مدن طرابلس ، والإسكندرية ، وأثينا ، والمقدرة بنحو 1000 كيلومتر، وهي المسافة الفاصلة بين طلميثة، والمدن الثلاثة.

مدينة طلميثة الأثرية

تغطي آثار المدينة مساحة المحصورة داخل الأسوار 250 هكتار، تضم بقايا القصور الفخمة والخزانات الكبيرة التى تعد من أكبر صهاريج المياه الرومانية في شمال أفريقيا، كما يظهر في المدينة بشكل واضح نظام الطرق الشبكية، الذي أسسه ( هيبوداموس) المالطي خلال القرن الخامس، ويظهر مخطط المدينة النظام الشبكي القائم على تعامد الطرق و الذي تضح معالمه في تقاطع الشوراع الفرعية المعروفة بأسم كاردو مع الشوارع الرئيسية والتي تعرف باسم الدكيمنوس ، و ها التخطيط الشبكيى مييز شوارع المدينة و جعلها تبد و كشبكة من الجزر بمساحة 100 × 500 قدماً بلطمياً أي مايعادل 365 × 36.5 متراً خصصت لإقامة المباني.

من أهم أثار مدينة طلميثة بوابة أثرية تعرف ببوابة توكرة , وسميت بهذا الاسم لانها لانها تقع في الجهة الغربية من المدينة الاثرية في اتجاه مدينة توكرة , وبنيت البوابة على الطراز المصري البلطمي و كانت تشكل المدخل الرئيسي للمدينة .

كانت الكنائس من السمات البارزة للمشهد الحضري في برقة كما هو الحال في أجزاء أخرى من مناطق البحر المتوسط في العصر البيزنطي.
و طلميثة و لمكانتها الكبيرة كمقر لأسقفية المدن الخمس في ليبيا في العهد البيزنطي اواخر القرن الرابع للميلاد , توجد بها أثار لبعض الكنائس أهمها ماتعرف بالكنيسة الغربية أو الكنيسة المحصنة , و عرفت بالكنيسة المحصنة لشكلها المعمارية الذي يشبه الحصن , و يرجح بعض البحاث أن الكنيسة أعيد بنائها على أنقاض بازيليكا رومانية قديمة , و يقصد بالبازيليكا دار القضاء في العصر الروماني و كما تعرف المباني الأثرية التي بنيت على هذا الطراز بالمباني البازيليكة .
في ظل عدم وجود نقوش ، يشير بعض البحاث إلى فترتين محتملتين لبناء الكنيسة الغربية ، في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس ، و هي الفترة التي شهدت أسقفية سينيسيوس القوريني , و إتخاذ مدينة طلميثة مقرا لأسقفية المدن الخمس ، و في فترة اخرى ترتبط بعهد الإصلاحات التي قام بها لأمبرطور البيزنطي جستنيان في أوائل القرن السادس للميلاد .
تقع الكنيسة في أقصى الجانب جنوب الغرب للمدينة و بسبب قربها من جدار المدينة بنيت على طراز محصن في الوقت الذي كانت فيه المدينة مهددة بغارات الليبية .

يوجد للكنيسة مدخل واحد صغير في الجدار الشمالي , يؤدي إلى أحد الأورقة اللذان يحيطان بصحن الكنيسة و يبلغ عرض الصحن ثلاثة أضعاف عرض الأورقة , و يحيط بالصحن صفان من الأعمدة , إرتفاع كل عمود يبلغ حوالي 3 أمتار , و كما يرتفع جدار الكنيسة حوالي 8 أمتار , و تتجه حنيتها الواسعة إلى الشرق .
توجد على جانبي الحنية غرفتان صغيرتان , تميزت إحداهما بوجود قبة داخلية صغيرة يعتقد العلماء أنها معمودية , و بسبب وجود القبة الصغيرة داخل هذه المعمودية يطلق السكان المحليين اليوم على الكنيسة اسم قصر بوقبيبة , وقبيبة هي تصغير لكلمة قبة و يقصدون بها القصر ذو القبة الصغيرة .

كنيسة طلميثة الغربية
كنيسة طلميثة الغربية
كنيسة طلميثة الغربية
كنيسة طلميثة الغربية

تتكون شوراع المدينة الأثرية في طلميثة من نوعين مختلفين , شوراع رئيسية يصل عرضها إلى ثمانية عشر مترا و تعرف بالديكمنو , و شوراع ثانوية يصل عرضها النموذجي إلى إلى ستة أمتار تعرف بالكاردو .
لم يتم التنقيب بالكامل في تلك الشوارع و لكن تم التنقيب في أجزاء منها . و لازلت أثار مكوناتها الأثرية مدفونة إلى اليوم .
أكثر شوراع طلميثة أهمية هو شارع رئيسي يعرف بشارع النصب التذكاري و ايضا بشارع الصروح .

شارع الصروح
شارع الصروح
تقاطع الشوارع الرئيسية و الفرعية في طلميثة
تقاطع الشوارع الرئيسية و الفرعية في طلميثة
أحد الشوارع الفرعية في طلميثة تعرف بالكاردو
أحد الشوارع الفرعية في طلميثة تعرف بالكاردو

يطل قصر كبير على شارع الصروح من الجهة الشرقية يعرف بقصر الإعمدة , و لايوجد مايشير إلى تاريخ إنشاء القصر فيما يرى بعض العلماء أنه بني في الفترة الهلنيستية في القرن الثاني أو القرن الأول للميلاد , و يرى البعض الأخر أنه أنشئ في عصر الأمبرطور تراجان أوخر القرن الأول للميلاد , و أجريت على القصر تغيرات عديدة في القرن الثاني للميلاد , ويرجح بعض العلماء أن القصر كان مقرا للسلطة المحلية في العصر البلطمي و العهد الروماني المبكر في شرق ليبيا , وصار فيما بعد أواخر القرن الثالث للميلاد مقرا لنائب الأمبرطور الروماني دقلديانوس في برقة .
يحتل قصر الأعمدة مساحة كبيرة على جانب شارع الصروح (طوله 164.10 مترًا و عرضه حوالي 37 مترا ,’ و يقع المبنى على أرض منحدرة تنحدر من الجنوب إلى الشمال وتحتوي على غرف على مستويات مختلفة متصلة بواسطة سلالم.

يوجد وسط مساحة القصر حوض حمام للسباحة في مساحة مكشوفة تعرف بالباريستيل و هو رواق محاط بإعمدة إيونية من ثلاث جهات , وأعمدة كورنثية على الجانب الشمالي ، تفتح أفخم غرف على الباريستيل و على الجانب الشمالي منه قاعة كبيرة رباعية ذات أعمدة كورنثية ، وعلى الجانب الجنوبي فصلين دراسيين كبيرين ، و قاعة واسعة رئيسية تعرف بالإكوس تستخدم عادة كقاعة رئيسية او غرفة للإجتماعات و إقامة المأدب ، بالإضافة وجود غرفة نوم على ذات المستوى .
إلى الشمال من “الباريستيل ، في الطابق السفلي ، توجد غرف الحمامات الخاصة ، على الواجهة الشمالية المطلة على شارع الصروح ، مجموعة من المحلات التجارية تفتح على الشارع ومجهزة بغرفة خلفية.

لاتزال بقايا فسيفساء قصر الأعمدو موجودة إلى اليوم فيما نقلت لقى تنقيب الكثير من البعثات الإستكشافية و العملية إلى متحف المدينة .

قصر الأعمدة في مدينة طلميثة الأثرية
قصر الأعمدة في مدينة طلميثة الأثرية
قصر الأعمدة في مدينة طلميثة الأثرية
قصر الأعمدة في مدينة طلميثة الأثرية
قصر الأعمدة في مدينة طلميثة الأثرية
قصر الأعمدة في مدينة طلميثة الأثرية
بقايا فسيفساء قصر الأعمدة
بقايا فسيفساء قصر الأعمدة
بقايا فسيفساء قصر الأعمدة
بقايا فسيفساء قصر الأعمدة
واجهة قصر الأعمدة في مدينة طلميثة الأثرية
واجهة قصر الأعمدة في مدينة طلميثة الأثرية

في شارع الصروح الرئيسي عند إلتقاءه بالشارع الفرعي المؤدي إلى المسرح الصغير أو الدِّيون يوجد بقايا قوس أثري يعرف بقوس قسطنطين، والذي أنشيء من قبل سكان طلميثة والمدن الخمس تخليداً لانتصارات الإمبرطور الروماني قسطنطين بداية القرن الرابع للميلاد.
عثر على بقايا قوس قسطنطين عند ناصية شارع الصروح و تم ترميمه و لكن فيما يبدو ان عمليات الترميم لم تكتمل , ولاتزال بعض مكوناته مدفونة و اخرى متناثرة حوله .

مدينة طلميثة الأثرية
بقايا قوس قسطنطين

شاهد فيديو لبعض معالم مدينة طلميثة الأثرية

رحلة إلى ليبيا : مدينة طلميثة الرحلة الأولى

Exit mobile version