رحلة إلى ليبيا : وادي مرقس , الرحلة الثانية

نواصل رحلتنا إلى ليبيا و تحديدا إلى وادي مرقس في رحلتنا الثانية في ذلك الوادي الذي يشق الطبقة الساحلية للجبل الأخضر شمال شرق ليبيا , بين منطقتي راس الهلال و لاثرون , و هذا الوادي يتميز بطبيعته و بأسراره التاريخية و الدينية القديمة .
للإطلاع على الرحلة الاولى إلى وادي مرقس يمكنك الاطلاع على هذا الرابط : رحلة إلى ليبيا : وادي مرقس , الرحلة الأولى
اشتهر وادي مرقس بوفرة انتاج عسل النحل الطبيعي، وتربية النحل في الوادي كانت مستمرة منذ القدم ففيما يعرف بصرح مرقس؛ وهومجمع أثري ديني نحت أعلى الجرف الغربي للوادي توجد أدلة على أن قاطني ذلك المجمع قاموا بتربية النحل وانتاج العسل في الفترة التي يرجح الكثير من البحاث أنها بدأت منذ القرن الأول للميلاد واستمرت حتى بدايات القرن الرابع للميلاد.
كهف الصوف
يعتبر كهف الصوف أحد المراكز الرئيسية لتربية النحل وانتاج العسل، وهوكهف عال نحتت الكثير من مرافقه أعلى الجرف الغربي للوادي بمحاذاة صرح مرقس الأنجيلي، ويرجح أنه أنشئ ونحت في ذات الفترة التي أنشئ فيها ذلك الصرح، ولايبعدان عن بعضهما سوى مسافة تقدر بأقل من كيلومتر واحد.
سمي كهف الصوف لاستغلاله في تخزين الصوف من قبل سكان الوادي في العصر الوسيط وحتى الفترة التي رافقت قيام الحرب العالمية الثانية عام 1941، حيث يوفر موقعه الفريد وتكوينه المعماري حماية من مياه الأمطار والرطوبة.
يوحي الشكل العام للكهف وتكوين مداخله القوسية المنحوتة في الصخر الجيري إلى أنه أنشئ كدار للعبادة في الفترة التي نشط فيها أتباع المسيح بالمنطقة منذ منتصف القرن الأول ميلادي، ويحتوي في داخله على حنيات منحوتة في الجهة الغربية قبالة المدخل، تتوافق مع الأشكال القديمة للكنائس المبكرة.
ولازلت صناديق خلايا النحل القديمة موجودة في الكهف الذي هجر منذ عقود بسبب أوضاع المنطقة الأمنية خاصة في فترة تسعينيات القرن العشرين، عندما خاضت السلطات الليبية حربا على المتطرفين الذي لجؤوا للوادي، حيث قامت الأجهزة المية بحرق مساحات كبيرة من غابات الوادي الطبيعية وقد نال ما تعرف بالغابة الشرقية النصيب الأكبر من هذه الحرائق وأتت عليها كلها.
إلا أنه ومع مرور الزمن بدأت غابات الوادي تستعيد غطائها النباتي الأخضر، واستمرت الأشجار بالنموواستعادة كثافتها وخضرتها اليوم.




عين مرقس
تعتبر عين أم الناموس من أشهر ينابيع وادي مرقس، وتقع هذه العين في الجزء الجنوبي، وتبعد عن مدخل الوادي الشمالي حوالي 8 كيلومترات، وتعرف لدى البعض من سكان المنطقة بعين مرقص.
ترتفع عين أم الناموس عن سطح البحر بثلاثمائة وسبعين مترا، ويقدر معدل تدفق مياهها بعشرة ليترات في الثانية، وهي نبع ماء عذب ينبع من صخر جرف الوادي الجنوبي الغربي وتنحدر عبر مجرى مائي مسافة حوالي كيلومتر واحد قبل أن تنحدر من ارتفاع عال لتصنع شلالا صغيرا يعرف بشلال وادي مرقس.
تساهم بركة صغيرة تتجمع فيها مياه العين أعلى الشلال في زيادة معدلات تدفقها، من أعلى المنحدر وتتجمع أسفله في بركة تعرف ببركة الفرس، لا يعرف سر تسمية البركة ببركة الفرس؛ إلا ان شكلها للناظر من أعلى تشبه رأس الحصان الى حد ما، او رأس سهم، وتحيط بالبركة أشجار الدفلى وبعض النباتات التي ترسم شكلها بوضوح.
تأخذ مياه عين أم الناموس طريقها من أسفل الشلال عبر مجرى عميق يتوسط الوادي، وتلتقي مع مياه الينابيع الأخرى على طول هذا المجرى الذي نحتته المياه على مر العصور؛ ليصل إلى الساحل حيث يتم حجز كمية كبيرة من هذه المياه خلف سد في مدخل الوادي الشمالي.


تسمية الوادي
لم يحظ وادي مرقس بدراسات عملية أو أبحاث رغم وجود الكثير من الآثار فيه، والقليل من البحاث الذين زاروا الوادي لم ينقبوا في تلك الأثار أو يمنحوها قدرا كافيا من الدراسة والبحث، ويعتبر الباحث الليبي داود موسى حلاق؛ الوحيد الذي تناول الوادي بطبيعته وآثاره، وتأمل في أجرافه وبقايا اطلاله، وأصدر دراسته في كتاب عام 1993 يحمل اسم مرقس الإنجيلي، حيث يربط حلاق اسم الوادي باسم القديس مرقس الإنجيلي، وهوأحد رسل المسيح السبعين الذين بعثهم لنشر تعاليمه بين الأمم، ويرجخ البحاث ورجال الدين أن ولادة القديس مرقس كانت في إحدى مناطق قورينا أومدينة شحات الحالية، ويذكر شنودة الثالث راعي الكنيسة المصرية في كتابه ناظر الإله الإنجيلي مرقس الرسول القديس والشهيد، أن مرقس ولد في قورينا في إحدى المدن الخمس في شرق ليبيا، وفي بلدة تدعى أبرياتولس، ويذهب المؤرخ القبطي ساويرس بن المقفع إلى أنه ولد في مدينة درنة شرق مدينة قورينا، كما ان داود حلاق يرى ان مرقس ولد بالفعل في قورينا وفي إحدى ضواحيها الريفية وتعرف اليوم باسم برطلس.
تتحدث الروايات التاريخية وبعض منشورات البحاث والدارسين إلى أن مرقس عاش في الجبل الأخضر مع عائلته حتى اضطروا للهجرة إلى فلسطين والاستقرار بها بسبب الأوضاع السيئة التي مر بها إقليم المدن الخمس، وأنه التقي بالمسيح هناك وتبعه وأصبح من تلاميذه ورسله السبعين، وبعد رفع المسيح شرع مرقس في نشر تعاليمه في بعض المناطق حتى عاد إلى مسقط رأسه وموطنه في الجبل الأخضر، الذي اتخذه مركزا لنشاطه الديني، حيث استقر مرقس لفترة في اودية الجبل الأخضر، ويعتقد حلاق أنه لجأ في البداية إلى وادي الإنجيل شمال عين مارة وجنوب كرسه، واتخذ مغارة في قسمه الجنوبي مقرا لإقامته، وينسب البعض تسمية الوادي بوادي الإنجيل إلى قيام مرقس بكتابة إنجيله المعروف؛ وهو أحد الأسفار الأربعة القانونية التي تعترف بها الكنائس في العالم اليوم.
يرجح أن صعوبة تضاريس وادي الأنجيل ووعورة أجرافه وعدم وجود مساحات منبسطة أو دروب ومسالك سهلة، ومع كثرة مريديه وأتباعه، دفعته إلى الاتجاه غربا إلى أحد الأودية قرب منطقة راس الهلال، وعرف لاحقاً باسمه، وادي مرقس، والمسافة بين وادي الأنجيل ووادي مرقس لاتزيد عن خمسة عشرة كيلومتراً.
أما الروايات المحلية عن اسم الوادي؛ فبعضه لا يستند إلى المنطق أوالدلائل المادية، حيث يرجع البعض إلى أن اسم الوادي هو وادي مرقص وينسب ذلك إلى كثرة طائر الحدأة الذي يعرف محليا باسم بورقيص، إلا أن المشاهدات وتتبع نشاط بيئة الوادي لا تعزز هذه التسمية، حيث لا تكثر في وادي مرقس أنواع كثيرة من الطيور الجارحة ولا تشاهد الحدأة بكثرة فيه، إضافة إلى أن اللهجة المحلية تستخدم كثيرا السين مكان الصاد في الكثير من التسميات كالسور الذي يعرف بالصور والسورة التي تنطق احيانا الصورة.

تسمية عين أم الناموس
وفي دراسته تناول داود حلاق أصل تسمية عين أم الناموس، ورجح إلى أن أصل كلمة ناموس يرجع إلى اللغة اليونانية القديمة وتعني الوحي أواسم من أسماء الملاك جبريل، وأيضا تعني الشرائع الإلهية، وقد حاول حلاق ربط معنى التسمية بالآثار الكثيرة في الوادي التي تدل على انه كان مركزاً لممارسة الطقوس الدينية المسيحية المبكرة، وربطها بتواجد مرقس لفترة في الوادي قبل ذهابه لمصر ومقتله هناك عام 68 للميلاد.
وفي اللهجة المحلية يعرف النوع الصغير من البعوض بالناموس، وقد يدل الاسم على كثرة تواجد البعوض عند نبع العين وكثرة استخدام سكان الجبل الاخضر لكلمتي أم وأبو لربط الصفات والاشخاص والكائنات باسم مكان معين، إلا أنه لا توجد دلائل على تواجد هذه الانواع من الحشرات بكثرة تميزها في بيئة المكان.
وتعتبر عين أم الناموس من أهم مصادر المياه في الوادي وفي منطقة ساحل الجبل الأخضر ومياهها عذبة؛ حيث تتغذى من احواض جوفية تمتلئ بصورة دورية في مواسم الأمطار، ويعتقد أنها ترتبط ببقية ينابيع الوادي وينابيع الأودية الساحلية بمجرى جوفي عميق.
شاهد فيديو لوادي مرقس :
بقلم و تصوير : ماهر العوامي